في ذاك المكان الذي أعاد لي ذكريات الطفولة، رأيتُ فيه منازل بسيطة مبنية بالطوب اللبنِ على جانبي الشارع، وأمام كل منزل "لمبة صفراء"، وكنبة بلدي "دكة"، -كما يطلق عليها الناس- حيث كان يجلس عليها الرجال ليلًا يتسامرون ويقصون قصص الأجداد وهم يشربون "الشيشة"، ومنهم من كان يجلس في المقاهي يلعبون "الضمنة" محدثة صوت طرقعة عالية، فتتعالى ضحكاتهم في جو الليل البهيم..
ولكن دعوني أعرفكم على نفسي أولًا..
أنا فتاة عاصرت جيلين، جيل الأصالة الذي كان يعيشه الأجداد وتربىٰ فيها الآباء والأمهات، وتربيتُ أنا وكبرتُ على تلك الأصالة..
ولكن لحظة، حتى لا يذهب ذهنكم إلى بعيد.. فقد تعتقدون أن عمري الآن صار بالخمسينات أو الستينات، وقد تتعجبون حين تعلمون أنني فتاة ثلاثينية تحكي عن زمن تحوّل في غمضة عين وكأنه انتقل عبر آلة زمنية انتقلت بنا من الماضي إلى المستقبل..!
في ذاك الوقت لم تكن صُنعت الهواتف النقالة ولم تكن وُجِدت وسائل التواصل الاجتماعي، ولا الذكاء الاصطناعي، حتى إن شاشات التلفاز لم تكن مُلوَّنة، بل كانت بالأبيض والأسود -أو بالأحرى كانت موجودة ولكن قليل من كان لديه تلفاز مُلوَّن- ومن يكن عنده ذاك التفاز فكأنه ملك الزمان..
في طفولتي حينما كنتُ أسير في الشوارع، أرى الناس مجتمعين في المقهى أمام تلفاز صغير يشاهدون بعض البرامج وهم مستمتعون.
وفي المساء تسمع صوت "الراديو" يأتي من كل مكان، في المقهى، وعند بائع الحلوى، وعند الجيران، يستمعون لـ "إذاعة القرآن الكريم" ومن قبلها "ألف ليلة وليلة".
أما في منزلنا فقد كان لدينا تلفاز ملون بثلاث قنوات محلية، وأتذكر تلك الأيام التي كان يجتمع فيها الجيران والأقارب في منزلنا ليشاهدوا المسلسلات والبرامج ولا يسمحون لأحد بالتحدث عند إذاعة المسلسل، وإذا تكلم أحد نظروا إليه نظرات غضب، وأشاروا إليه بسبابتهم موجهينها إلى أفواههم إشارة للالتزام بالصمت.
ولم تمر سنوات طويلة حتى ظهر الهاتف المنزلي، ووراءه ظهر الهاتف "اللاسلكي" ماركة "نوكيا"، وكالعادة كلما صُنع شيئًا جديدًا كان الناس ينبهرون به، ويذهبون لشرائه إذا توفَّر لديهم المال، وإذا مَلَك الواحد منهم هاتفًا نقالًا، أخذته العزة في نفسه، وكأنه من سلالة الملوك والسلاطين..!
ثم تطوَّرت تلك الهواتف، وتعددت الشركات والماركات، إلى أن صار عمري بأوائل العشرينات وفي ذاك الوقت تم اهدائي هاتف نقال"تاتش" كان هاتفًا مستوردًا من دولة عربية، وفي ذاك الوقت لم تكن هواتف "التاتش" قد صُنعت في مصر.. إلَّا ذاك الهاتف الذي كان كما يطلقون عليه (زرارير بنص تاتش).
وبعد سنوات قليلة مرت بلمح البصر انتشر "التاتش" في كل مكان، وكلما تطوَّرت التكنولوجيا وانفتح العالم على مصراعيه، كلما ظهر الفساد وانتشر بين الناس كالسرطان، ومُلِأَت القلوب بالحقد والغل والحسد، وحب الدنيا، والتعلق بها، وكأننا فيها خالدين مخلدين..!
وبالرغم من أن البيوت كانت بسيطة، إلا أن العيشة كانت جميلة هنيئة، ترى الناس على قلب رجلٍ واحد مجتمعين، وكأنهم جسدٌ واحد، يشعر كل منهم بالآخر، أيام كان يعم فيها الخير والبركة.
فترحمت على تلك الأيام التي صارت بالنسبة لي مجرد ذكريات، شارفت على انتهاء صلاحيتها؛ فقد تبخرت في الهواء مع ظهور تلك التكنولجيا التي يقولون عنها أنها تُقرِّب المسافات، وتقرب الناس من بعضهم، ولكنني أرى العكس؛ فقد ازدادت المسافات بُعدًا عمّا قبل، فحينما نكون في منزلٍ واحد مجتمعين لا نتحدث مع بعضنا البعض؛ بسبب انشغال كل واحد منّا بهاتفه، وكأننا غرباء، حتى أثناء خروجنا مع الأصدقاء يترك كل منّا الآخر وينظر في شاشة هاتفه يتسامر ويضحك مع ذاك الغريب البعيد، ونترك من هم بجانبنا الذين جاؤوا لأجلنا، فهي لم تقربنا بل أبعدتنا عن بعضنا ونحن في عز قربنا، فقط تقارب بالأجساد وبُعد بالحواس والعقول والقلوب..!
بقلم : سمر رمضان

تعليقات
إرسال تعليق